تفاصيل الخبر |
الأمن المائي العربي في ظل التغيرات المناخية
2024-09-03
الاستاذ الدكتور عصام محمد عبد الحميد
مركز تنمية حوض أعالي الفرات/ جامعة الانبار
تقع معظم أقطار الوطن العربي ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة كما تنبع معظم أنهارها من خارج البلاد العربية مما يزيد من تحديات الأمن المائي العربي جراء التغيرات المناخية التي تسهم في تقليل كميات الموارد المائية والتأثير على نوعيتها وتقليل انتاجيتها.
تتضمن هذه الورقة تمهيدا يبين أسرار هذا السائل العجيب في حفظ توازن الكون، وعرض تاريخي موجز لعلوم وإدارة المياه في بلادنا العربية، مع اقتراح خطوط عريضة لبناء ادارة مثلى لمواردنا المائية، من خلال انشاء مجالس عليا للمياه تضم صناع القرار المعنيين وخبراء في الجامعات وحقل العمل من اجل اعداد دراسات استراتيجية لتحقيق ادارة مثلى لمواردنا المتجددة، وتعزيز دراسات حصاد وتدوير المياه وإدارة المياه الجوفية، وتحديث متواصل لأنظمة الري والاستفادة من المياه الرمادية ومتوسطة الملوحة للحد من أخطار الجفاف والتصحر.
تمهيد:
الماء، ذلك الساحر العجيب، لا لون له، وما تزينت زهرة بلون لولاه، ولا فاح عطرها بدونه وهو بلا رائحة، وما ذاق بن آدم من لذيذ طعامِ إلا وكان الماء -عديم الطعم- قد رواه (تُسْقى بماءٍ واحدٍ ونُفَضّلُ بعضها على بعضٍ في الأُكُل)، فسبحان من سوّاه وقال فيه (وجعلنا من الماء كل شيء حي).
ومن تأمل في هذا الكون، وجد أن الماء هو المادة الوحيدة في الأرض المتواجدة بحالات المادة الثلاث (سائل، غاز، وصلب) بوفرة ودون تدخل إنسان. يعود ذلك لما أودعه الله تعالى في الماء من خصائص، ولما أبدعه سبحانه في تصميم مجموعتنا الشمسية على أساس حفظ الماء (شكل 1). فهذه الشمس الملتهبة وهي القوة الدافعة لدورة المياه في الطبيعة (Hydrological cycle) تبعد عن الأرض نحو 150 مليون كيلومترا، ويرى علماء الهيدرولوجيا أن هذه المسافة محسوبة بدقة لحفظ الماء في الأرض وفق حالات المادة الثلاث أعلاه، فلو اقتربت من الأرض بنسبة 10% مما هي عليه لتبخر كل ما على الأرض من ماء وكائن حي، ولو ابتعدت بتلك النسبة لتصبح نحو 165 مليون كيلومترا لتجمدت الأرض بما فيها.
والقمر، ذلك السراج المنير الذي يبعث السرور في ليالي الساهرين، يبعد نحو 384 ألف كم عن الأرض، لو ازداد بعده عنها 10% عما عليه الآن، لأصبحت مياه البحار والمحيطات آسنةً بركودها وتوقف ظاهرة المد والجزر، ولو دنا القمر من الأرض 10% لأغرق المد البلاد، وأجحف الجزر في الابتعاد.
أن هذا التصميم المذهل للكون، وما أودع في الماء من خصائص، تضمن للإنسان العيش بأمان على أرض يحتضنها الماء فيروي زرعها ويحفظ طاقتها ويلهم عاشقيها بألحان الجمال، فحيث ما نبع الماء كانت الخضراء والوجه الحسن.
يقتضي هذا التوازن الكوني المسبب لحفظ الماء ضرورة الحكمة في توازن استثمار وإدارة موارد الأرض بما يحفظ لها مناخها الآمن دونما إخلال بهذا الميزان الدقيق لحفظ الماء على الأرض بحالات المادة الثلاث. من هنا كان الهدي النبوي الشريف بضرورة الاقتصاد بالماء حتى لمن كان يتوضأ على نهرِ جارِ. ذلك ليعلم الإنسان أن حفظ موارد الطبيعة أحد أركان رسالته على هذه الأرض. وما تعاني منه الأمم اليوم من تغيرات مناخية هائلة وما يتمخض عنها من جفاف ممحل وطوفان مهلك، إنما هو نتيجة إخلال الانسان في استثمار موارد وطاقات هذه الأرض. وستتناول هذه الورقة بيان سبل تخفيف حدة هذه التغيرات التي تؤثر ليس على كميات المياه وتذبذب حالات الجفاف والفيضانات، بل وتؤثر على نوعية المياه أيضا وتسبب زيادة تملحها وتناقص إنتاجيتها.
صورة تبين مواقع الشمس والقمر
موجز تاريخي لعلوم وإدارة المياه في الوطن العربي:
أشارت بعض الرقم الطينية إلى أن المزارعين في بلاد الرافدين يوصون بزراعة الشعير بدلاً عن القمح في الترب المتأثرة بالملوحة، وذلك في مهد الحضارات قبل الميلاد بعدة قرون، وهذا يبين أنهم اكتشفوا بالتجربة تنوع المحاصيل في القدرة على التكيف مع الملوحة. من هنا كان أقدم تصنيف لنوعية مياه الري هو التصنيف العباسي الذي يقسم المياه إلى ستة أصناف حسب درجة ملوحتها، والتي كان يستدل عليها بالتذوّق وبتحسس النبات والحيوان لها، وكانت تسمية أفضل تلك الأنواع وأكثرها ملوحة مأخوذة من تسمية القرآن الكريم بقوله تعالى (هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا مِلْحٌ أُجاج)، ويعرض الجدول أدناه تلك الأصناف.
التصنيف العباسي لنوعية المياه، عن (إسماعيل، حميد نشأت 1991)
ت |
صنف المياه |
طبيعة المياه |
1 |
عذبٌ فُرات |
قليل الملوحة جداَ |
2 |
شَريب |
قليل الملوحة وصالح لشرب البشر |
3 |
شَروب |
متوسط الملوحة وتشربه البهائم |
4 |
زُعاق |
مالح وغير صالح للشرب |
5 |
حُراق |
مالح جداَ يسبب احتراق أوراق النبات |
6 |
أُجاج |
الماء المالح المُر |
شح المياه في الوطن العربي:
تعاني معظم بلادنا العربية من شح كبير في المياه يزداد حدة بتأثير التغيرات المناخية التي تهدد العالم أجمع، وخصوصا المناطق الجافة وشبه الجافة التي يقع وطننا العربي ضمنها. يُسمى الوطن العربي بمثلث العطش، حيث تشغل مساحة بلادنا العربية نحو 9,1% من مساحة اليابسة، بينما تقل نسبة المياه السطحية في أنهار وبحيرات الوطن العربي عن 1% من مياه الأرض السطحية، أما الأمطار فتبلغ نحو 2% فقط من أمطار العالم.
ترتب على ذلك وقوع 19 دولة عربية تحت خط الفقر المائي، حيث تقل حصة الفرد الواحد فيها عن ألف متر مكعب سنوياً. منها 14 دولة تعاني شحاً كبيرا حيث لا يكفي المتوفر من مواردها المائية لسد الاحتياجات الأساسية. ويحذر علماء المناخ والبيئة من تعرض نحو ثلث الأراضي الزراعية العربية إلى التصحر بسبب التناقص الحاد بالمياه. من هنا لا بد من دق ناقوس الخطر وإيلاء موضوع إدارة الموارد المائية أهمية قصوى للتكيف مع التغيرات المناخية سعيا لتحقيق أمن مائي وغذائي لشعوبنا العربية.
موارد مائية بديلة:
المياه متوسطة الملوحة، وهي مياه الصرف الزراعي وبعض المياه الجوفية التي لا تزيد تراكيزها الملحية عن 7000 جزء من المليون. حيث يمكن استخدام هذه المياه في ري الأشجار والمحاصيل المتحملة للملوحة مثل النخيل والشعير والقطن. تجدر الإشارة إلى وجود مليارات الأمتار المكعبة سنوياً من مياه الصرف الزراعي يمكن الاستفادة منها في تحسين الأمن المائي والغذائي في ظل التغيرات المناخية، وعلى سبيل المثال، تتدفق نحو أربعة مليار متر مكعب من مياه الصرف الزراعي في العراق نحو المصب العام ثم إلى الخليج العربي ومعظمها مياه متوسطة الملوحة يمكن استخدامها للتوسع بزراعة غابات النخيل والمحاصيل الحقلية المتحملة للملوحة.
حصاد مياه الأمطار، والتي يمكن أن تمثل موردا مهما حتى في المناطق الجافة التي لا يزيد فيها متوسط عمق المطر السنوي عن 200 ملم مثل وادي الثرثار في العراق والذي يحقق متوسط حصاد مياه سنوي يزيد على مليار متر مكعب من مياه الأمطار عالية النقاوة. لا بد من التوسع في إنشاء السدود الصغيرة لحصاد مياه الأمطار للاستفادة منها بشكل مباشر أو من خلال إسهامها في تغذية المياه الجوفية بزيادة كميتها وتحسين نوعيتها.
التوسع في انشاء الخزانات الرملية لمياه الأمطار بما يسهم في تعزيز واردات المياه الجوفية وتقليل فواقد التبخر، حيث تبين أن خزن الماء في ترب رملية أو حصوية يقلل فواقد التبخر بنسبة 90% عندما يكون منسوب الماء على عمق 20 سم من سطح التربة.
المياه الثقيلة المعالجة وتدوير المياه الرمادية. تبين دراسات حديثة إمكانية معالجة وإعادة استخدام نحو 80% من مياه الاستخدامات المنزلية والصناعية. والتي يمكن استخدامها في زراعة أحزمة خضراء تسهم في تحسين ظروف البيئة وتحد من آثار التغيرات المناخية الحادة.
خاتمة:
بعد ما تبين من شح خطير في مواردنا المائية وأهمية إدارة مواردنا المائية على الوجه الذي يحقق الأمن المائي والغذائي لبلادنا العربية، لا بد من أخذ هذا الأمر على محمل الجد وتشكيل مجالس عليا لإدارة المياه يكون ارتباطها مباشرا بأعلى سلطة في البلاد، مع ضرورة ان تضم هذه المجالس علماء المياه والبيئة في الجامعات والمراكز البحثية مع الخبراء الميدانيين في الوزارات والدوائر المعنية. ولا شك أن الأمن المائي والغذائي مسؤولية مشتركة ينبغي أن يتعاون الجميع في مراعاتها والتعاون في حل مشاكلها.
#مركز_تنمية_حوض_اعالي_الفرات
#Upper_Euphrates_Basin_Developing_Center